الثلاثاء، مايو ٢٦، ٢٠٢٠

26-6-2009" المسايرة" و تخلف النظام التعليمى



" المسايرة" و تخلف النظام التعليمى
                                                                                  بقلم/ سمير الأمير
فى صيف 1998 أرسلتنى وزارة التربية والتعليم ضمن بعثة المعلمين المصريين للمملكة المتحدة، و كان برنامج البعثة ينقسم إلى شقين: الأول هو تلقى تدريب نظرى فى جامعة ادنبره للوقوف على أحدث طرق تدريس اللغة الإنجليزية، والشق الثانى قضاء ما يقارب شهرا كاملا فى المدارس الاسكتلندية لمشاهدة كيف تطبق تلك النظريات التربوية فى الواقع العملى وهنا شعرت بالحسرة على أولادنا ومعلمينا، ليس بسبب الصدمة الحضارية التى حذرونا منها ومن تأثيراتها المحبطة علينا قبل سفرنا ولكن لأنى فوجئت حين زرت المدارس الاسكتلاندية أن أبناءنا ومعلمينا أكثر ذكاء وخبرة, ولعل تلك البعثة مكنتنى أيضاً من إدراك بعض الأسباب الحقيقية لفشل برامجنا التعليمية وأهمها أن النظام system   هناك يسمح للطفل متدنى الذكاء بالوصول إلى نتائج أكثر أهمية لنضجه ونموه مما تسمح به النظم التعليمية فى أوطاننا السعيدة للطفل بالغ الذكاء، ولا يحتاج الأمر للشرح فالطفل هناك يتم مساعدته على الوصول بإمكانياته إلى أقصى مدى يمكن الوصول أليه، وكذا يسمح النظام هناك للمعلمين بإبداء الرأى في الموضوعات التى يدرسونها وبانتقاد السياسات التعليمية،  أما هنا فيصبح الذكاء تهمة قد تؤدى بالطفل العربى الذكى إلى الشعور بالعزلة وعدم القدرة على التكيف مع نظم تشبه خطوط السكك الحديدية من حيث صرامتها غير المبررة، فاختباراتها التى تحدد مصائر الطلاب لا تقيس سوى القدرة على الاستظهار دون مناقشة أو نقد، وقد يؤدى انتقاد المدرس لمديره أو لموجهه إلى نقله لمجرد أن يكتب المدير فى تقريره كلمة " غير متعاون" التى لا تعنى سوى أن المدرس متميز ومحترم ويريد أن يتفاعل ويتعاون مع النظام التعليمى ويطوره وقد كان الزملاء الدارسون فى البعثة خير مثال لنتائج نظمنا التعليمية فقد أزعجهم اعتراضى على بعض برامج التدريب وقالوا لى " لو سمحت اسكت لأنك حتودينا فى داهية" وعندما استفسرت عن ماهية تلك الداهية ونحن فى بلاد الحرية التى تقل فيها نسبة " المصائب" والدواهى بدرجة ملحوظة، أخبرونى أن إدارة جامعة ادنبره يمكن أن تخبر الملحق الثقافى بما يثيره الطلاب المصريون من انتقاد لبرامج التدريب ومن ثم نحاسب عند عودتنا للقاهرة وبلغ الأمر ذروته حين جاءوا لنا بأستاذ يهودى يتحدث العربية بطلاقة لكونه عاش فى بيروت مدة طويلة وبدلا من أن يحدثنا فى التربية ونظريات التعلم راح يتطاول على الزعيم جمال عبد الناصر معتبرا وجودنا فى بريطانيا لتلقى العلم أحد نتائج انتهاء حالة العداء بين مصر والغرب التى تسبب فيها ناصر " بغبائه "( بحسب وصفه) وهنا لم استطع أن أتحمل وصف البروفيسير اليهودى لناصر بالغباء فوقفت معترضا ومحدثا زملائى بالعربية طالبا منهم مغادرة القاعة ومن حسن حظى أن اغلبهم كانوا من صعيد مصر فاستثرت فيهم نخوة الصعيد مذكرهم أن " ناصر صعيدى مثلهم" فخرجوا معى ورفعت صوتى فى ردهات الجامعة مدعيا أنى سأكتب تقريرا لوزير التعليم المصرى عن تطاول البروفيسير اليهودى على رمز عظيم من رموز مصر العظيمة، وطبعا كنت أكذب لأنى لا اعرف الوزير ولا أعرف كيف اكتب له تقريرا، ولكن تهديدى أصاب المنسقة " روث ريد" المسئولة عن الطلاب المصريين بالرعب لأنها كانت تخشى أن تفقد وظيفتها إن توقف البرنامج الذى كانت مصر تموله وحاول البروفيسور الاعتذار ولكننا اكتشفنا أن محاضرته لم تكن جزءا من البرنامج المتفق عليه مع مصر وأن غضبنا كشف لنا أن هناك من ينتظر مبعوثينا ببرامج أخرى تخص إسرائيل، وبعدها جاء الملحق الثقافى المصرى أو ربما كان أحد ممثلى الملحقية فشكى له أحد الزملاء من طريقتى لكى يبرأ نفسه منها و أخبره بأنى يسارى وكثير الاعتراض فأخبرته بما حدث ففوجئت بأن الرجل يطالبهم باليقظة ويشيد بما فعلته وينتقد زميلى عضو الحزب الوطنى ويقول له بالحرف الواحد " أن الطلاب والمبعوثين المصريين يتم استهدافهم واستهداف عقولهم وأن ما فعله زميلكم يستحق التحية وعليكم ألا تتعاملوا مع بعضكم كيساريين أو يمينيين ولكن كمصريين، بل ذهب إلى القول" أن دفاعكم وشرحكم للقضية الفلسطينية لزملائكم البريطانيين هو واجب عليكم كعرب، وهنا شعرت بالعزة وشعرت بعظمة الخارجية المصرية كمؤسسة وطنية وعربية لم تجعلها معاهدة السلام تغمض عينيها عن المخاطر التى تستهدف عقول مبعوثينا، وطبعا تغيرت معاملة الزملاء وأصبحوا أكثر قربا منى، ليس اقتناعا بأفكارى ولكن لحصولهم على تصريح رسمى من الملحق الثقافى أو ممثله( لم أشغل بالى بالأمر حينها) بأنى مصرى ووطنى مثلهم تماما و أن ما فعلته يلقى دعما من السفارة التى لم يكن يرد ذكرها فى حديثهم سوى عندما يقولون " السفارة ممكن ترحلنا مصر " وفى ظنى أنه لو كانت جاءتهم تعليمات أخرى بعدم التحدث معى ومقاطعتى لفعلوها وتلك هى الكارثة!! و انتهت البعثة بحصولى على المركز الأول وبإشادة عميد معهد مورى هاوس للتربيةMoray House بالمدرس المصري الذى انتقد برامج التدريس للطلاب الأجانب ومن ثم ساهم فى تطويرها بمقترحاته ومنحت خطاب خاص يسمى " commendation" قالوا لى هناك أنه يجب أن أسلمه لوزارة التربية فى مصر،   بالإضافة إلى شهادة تشيد  بأدائى  كمعلم لغة انجليزية وعندما عدت إلى مصر  بالخطاب الذى جاء فيه أنى كنت ممثلا ممتازا لمهنة التدريس المصرية وللشعب المصرى وجدت معمل اللغات الذى كنت أشرف عليه يسند لمدرسة استطاعت الحصول على واسطة ولم استطع دخول المعمل حتى الآن واضطررت للهرب للقطاع الخاص تاركا مدرستى الحكومية التى قضيت فيها ربع قرن ولكنى احتفظ بشهادة التفوق الاسكتلندية كدليل فقط أمام زوجتى وأبنائى على أنى قد أكون مدرسا صالحا ولكن فى سياق نظام تعليمى آخر يحتفى بمن يكتشف عيوبه من أجل إصلاحها،  وللحقيقة أيضا فقد استخدمت تلك الشهادة للدفاع عن نفسى أمام انتقادات الأهل الذين انتظرونى فى المطار فوجدونى أحمل كراتين الكتب،   وحين لمحت فى أعينهم الاستغراب ، أخرجت خطاب الجدارة وقلت لهم لم يحصل على هذا الخطاب سوى واحد فقط من كل تخصص ، ولكن ما فعلته لم يفلح سوى فى تحويل نظرات الاستغراب إلى نظرات شفقة لم تدم طويلا إذ سرعان ما أصبحت موضوعاًً لنكاتهم وسخريتهم   و قبل أن يصيبنى الإحباط تذكرت مطار إدنبره و  " موراج بلاك" المسئولة الإدارية عن المتدربين المصريين وهى تنظر لزملائى المسافرين إلى مصر بينما يجرون أحمالهم من الملابس والأحذية والأجهزة الكهربائية المستعملة وكل ما وجدوه رخيصا فى " إدنبره"، ثم تنظر موراج إلى المدرس شاعر العامية النحيف فلا تجد معه سو ى الكتب فتقول بالإنجليزية" You are an angel, Mr. Samir"" فأبتسم طبعاً لكونى أعرف أننى كنت الشيطان الوحيد بين مدرسين موهوبين ولكن النظام التعليمى شوهم وحولهم إلى مجرد موظفين ينتظرون صدور التعليمات!    k Hk kjhz[ H, lov[hj hgjugdl uk]il u/dlmHhHHHHh

ليست هناك تعليقات: