الثلاثاء، مايو ٢٦، ٢٠٢٠

1-2-2009 أيديولوجية التخلى



 أيديولوجية التخلى
                                                      بقلم/ سمير الأمير
                                                              

يقول الشاعر سمير عبد الباقى في قصيدة له عن " القدس" " الأخوة قبل الصبح اختلفوا في تفسير هوية موت الإنسان/ والأعداء اتفقوا ألا يبحر قاربك المكسور المجداف سوى للموت أو النسيان/ وهذا بالتحديد ما تذكرته حين قرأت مقال الأستاذ طلعت رضوان ومقال الأستاذ مهدى بندق بجريدة القاهرة في عددها الصادر فى6 /1/2009 وهما يحملان العرب مسؤولية ما يحدث في فلسطين دون أن يفرقا بين العرب   كنظم سياسية و الشعوب العربية وطليعتها من المثقفين القوميين والاشتراكيين والإسلاميين والعلمانيين الذين يشير " رضوان" ضمنا إلى أن غياب طيفهم وسط عتمة الأيدلوجيات قد أدى إلى الكارثة التى تحدث في غزة، وهو منطق لا يستقيم ولاسيما بعد أن أرجع مهدى بندق أسباب تفوق إسرائيل إلى كونها تتبنى الصهيونية العلمانية وهو خلط آخر بين مفهوم استخدام الدين والأساطير لخلق مجتمع يهودى معادى لكل الأغيار سواء كانوا علمانيين أو متدينين وبين مفهوم العلمانية الذى يقوم على الفصل بين الدين والسياسة، ومن ثم تنطوى مطالبتهما لنا بالتخلى عن عروبتنا وعن أفكارنا على مغالطة كبرى لأنها تتجاهل حقيقة أننا تنازلنا عن جزء كبير من أرضنا العربية للدولة العبرية واعترفنا بإسرائيل منذ القرار 242 ومشينا في في طريق التسوية التى سوتنا بالأرض،  ولم يبقى سوى أن نقبل دعوتهما بأن نتخلى أيضا عن ملامحنا وهويتنا لكى نتجنب المذابح الإسرائيلية، التى تحصد أرواح النساء والشيوخ والأطفال الأبرياء الذين لا يفهمون معنى كلمة أيدولوجيا التى يرددها كثيرا الأستاذ طلعت رضوان في مقالاته التى تحمل مسؤولية الموت للضحايا لأنهم ينتمون للإيديولوجيات البائدة التى قد يفهم من مقال سيادته أنها ليست سوى الإسلام والعروبة!
ألم يكن أجدر بمثقف كالأستاذ طلعت رضوان أن يدرك أن الصهيونية ومن قبلها الغرب الاستعمارى العنصرى شكلا البيئة التى جعلت العرب يتخذون من الدين وطنا ويخيمون في المفاهيم التى ينبذها سيادته بعد أن ألقت بهم حضارة الغرب الاستعمارى في العراء طمعاً في نفطهم و دمائهم، ألم يتناه إلى سمع الأستاذ مهدى بندق أن حوالى مليون ونصف عراقى قد سقطوا عن طريق الخطأ غير المقصود للديموقراطية الأمريكية التى تنتمى إلى العقل الغربى الذى يدعونا الليبراليون الجدد لارتدائه بعد خلع أدمغتنا طواعية قبل أن تطأها أحذية جنود العالم المتحضر، ألا سحقا لتلك الحضارة التى لا تقيم وزنا لأطفال غزة الذين احتموا بمدارس الأنوروا فقصفتهم صواريخ " الإف 16"   المتطورة، ألا سحقا لهذا الفكر الذى يحمل مسؤولية الجرائم الصهيونية لصواريخ غزة التى يقول عنها الأستاذ مهدى بندق في مقاله بنفس العدد " أنها لا تصيب دبابة أو طائرة بل مدنياً تقوم الدنيا لمقتله ولا تقعد" أما موت الآلاف من أبناء العرب فلا يحرك للغرب ساكنا، لأن كل عربى هو أب لإرهابى   يسعى لتحطيم حضارة الغرب بسلاحه المصنوع في ورشة حدادة" بدير البلح!"، ألا سحقا لشعورنا بالهوان والدونية الذى يجعلنا نلوم الضحية لأنها تثير شهية القتل عند القاتل، تماما كما يقول الشاعر عبد الرحمن الأبنودى" أدعى يصالحنى عدوى ويغفر لشهدائى"، أما ما يقوله الأستاذ طلعت عن الأيدلوجية فلست مضطرا لتذكيره بأن العالم كله لم يتخل عن الأيدلوجيات كما يطالبنا هو بالتخلى عنها، إذ انه أمرُُ مستحيل عمليا لكون تلك العقائد قد تشكلت على مدار التاريخ وأيضاً لأسباب موضوعية ومستقلة نسبيا عن إرادة الأفراد ولكون ما يحدث الآن من شراسة ونكوص حضارى على مستوى العالم يدعمها ويبرر وجودها، تماما كما أن فشل مدريد و"أسلو" و"واى ريفر" و"واى بلانتيشن" وأخيرا "أنابوليس" وكل تلك المؤتمرات يجعل من خيار المقاومة خياراً وحيدا أمام العرب والفلسطينيين، وليست العولمة المعاصرة-التى يبشرنا بها الليبراليون الجدد- سوى رغبة الأيدولوجيا الرأسمالية في السيطرة على العالم عبر دفن الأيدلوجيات الأخرى التى تقف حجر عثرة في وجه الاستغلال والهيمنة والنهب الاستعمارى الجديد، أى أنه بات علينا أن نقبع في علب الصفيح بينما يمرحون هم في براح بلادنا المحتلة، ولست بحاجة إلى أن أذكره أيضا بأن تعدد الأيدلوجيات وتعايشها هو ضمانة للتوازن وللسلم في العالم وهذا هو جوهر العلمانية كما أفهمها أنا كاشتراكي مصرى وهو ما كان يجب أن ينتبه إليه الأستاذان " رضوان" و"بندق" اتساقا مع طرحهما، لأن عنف أيدلوجياتنا الذى يحملانه مسؤولية فشلنا ليس سوى قطرة في بحر العنف الذى تصدره الحضارة الغربية للعالم بأسره ولو كان ما يقوله الأستاذ طلعت رضوان- في هذا الشأن- صحيحا لشهد التعايش السلمى ازدهارا بعد سقوط الاتحاد السوفيتى ولكن ما حدث هو العكس تماماً، فقد خرجت الولايات المتحدة التى تمثل أيدلوجية الرأسمالية منتصرة في الحرب الباردة- لأسباب لا مجال لذكرها هنا- ومن ثم سعت لتدمير كل المشاريع الفكرية التى تشكل تهديدا لرغبتها في الهيمنة على العالم فشنت حروبا ضد العراق وأفغانستان أطلقت عليها " حروبا صليبية جديدة" أى أن أمريكا هى التى دعمت فكرة التمترس خلف المقدسات في حروبها غير المقدسة، وما الهجوم على غزة سوى حلقة في مسلسل تصفية القوى المناوئة لهيمنة الأيدلوجية الواحدة على العالم المتعدد وهو الأمر الذى لم يقبله الفاتيكان نفسه إذ صرح الكاردينال " ريناتو مارتينو" مستشار البابا لشئون العدالة والسلام أن قطاع غزة يشبه معسكر اعتقال كبير، ولم يدر بخلده أن يدين حركة حماس كما يفعل بعض الليبراليين العرب رغم أن حماس فعلت الكثير مما يستوجب الرفض والإدانة، ولكن يبدو أن الكاردينال يدرك أن لوم الضحية قد يصب في مصلحة الجانى وهو ما لم يدركه الأستاذ طلعت مع احترامى لشخصه الذى لا يمنعنى طبعا من الرد على بعض أفكاره المثيرة للجدل والرد أيضا على بعض أفكار الشاعر مهدى بندق المثيرة للاندهاش،  مؤكداً لهما أن اعتزازى بالمقاومة لا يعنى أننى أدافع عن حماس ولا عن حزب الله ولا يعنى أننى أتبنى مشروعهما الدينى ولكن عروبتى ومصريتى هما ما يدفعانى للتشكك في كل تلك الكتابات التى تنتقد تخلف المشروع الفكرى للعالم العربى متجاهلة أن القاتل هو الذى دفع الضحية لارتداء أبشع وجوهها، ومتجاهلة كذلك أن كل تخلفنا الذى يثير حفيظة الليبراليين الجدد من أبناء جلدتنا ليس سوى ردة الفعل الطبيعية لعنصرية واضطهاد الغرب الاستعمارى المتسلط علينا بجيوشه سابقا وحاليا، والذى يدعم إسرائيل بالمال والسلاح وبالدفاع عنها وتبرير جرائمها في المحافل الدولية ويدعم أيضاً النظم العربية التى ارتضت بدورها في إطار منظومة الهيمنة الأمريكية لكى يضمن أننا لن نغادر تخلفنا الذى يشكل ضمانة لرخائه وتقدمه.
 "أخيرً وليس آخرا، ً أود أن أضيف أن مقال الأستاذ طلعت يعبر عن أيديولوجية صارخة وتحيز لنسق فكرى أصبح يشكل جزءا من صراع المفاهيم في المنطقة العربية وهذا فى تقديرى لا ينكره عليه أحد، ولكن ما لا يمكن قبوله هو دعوته لنا بالتخلى عن كل أفكارنا لا لشىء سوى لأن " رئيس السلطة الفلسطينية- كما ذكر الأستاذ رضوان في مقاله- يرتدى حذاءً ثمنه عشرون ألف يورو!!!"  


ليست هناك تعليقات: