الأحد، مايو ١٧، ٢٠٢٠

16-6-2008تاريخ الشر



تاريخ الشر                          بقلم/ سمير الأمير

فى اعتقادى أنه لكى نفهم ما يحدث فى العالم الأن بشكل عام وما يحدث فى المنطقة العربية بشكل خاص ، لابد لنا من محاولة الاقتراب مرة أخرى من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية من أجل الوصول إلى جوهر رؤية الأمريكيين أنفسهم للعالم إذ تؤثر تلك الرؤية فى ظل الهيمنة أحادية القطب على مجمل الأحداث الرئيسية ومجمل ردود الأفعال ،من هنا يصبح من الضرورى إعادة تأمل ذلك التاريخ كون ذلك يساعدنا على امتلاك رؤية تساعدنا على استكناه طبيعة الشخصية الأمريكية التى اثرت تأثيراً كبيراً فى طبيعة علاقة الأمرييكين بالعالم  تلك العلاقة التى تشكلت عبر تجاربهم الواقعية العملية كمغامرين ثم اسفرت بعد ذلك عن الأطر التى تحكم رؤيتهم لهذا العالم، أى أنه لابد من إدراك أن للهيمنة الأمريكية قصة تاريخية وأن الطبيعة العدوانية ليست مجرد طور جديد فى علاقة الأمريكيين بالشعوب الأخرى.

  لنبدأ القصة إذن من بدايتها.... منذ اندفع المغامرون من الساحل الشرقى نحو الغرب، يستعمرون ويقتلون أناساً ابرياء عاشوا قروناً يقدسون الأرض الطيبة التىحملتهم طويلا طويلا دون أن يدور بخلدهم أن سفناً غريبة سوف تلقى على شواطئهم بنفايات أوروبا من المجرمين المتعطشين للعدوان والتسلط، هذا مع الاعتذار لشخصيات رائعة مثل " ابرهام لنكولن ومارتن لوثر وكتاب عظام مثل  "وليام فوكنر " وآرثر ميلير، ولكن لم الاعتذار وقد كانوا هم أنفسهم أكثر الناس وعياً بالطبيعة الشرسة وبالنكوص البشرى الذى جسده الأمريكيون فى تاريخ الإنسانية والذى تمثل فى تعطش محموم للسلب والنهب بدأ بالرغبة فى التوسع غرباً فبرزت الحاجة لقتل الهنود الحمر لكى يسيطر المغامرون على مصادر الثروة الجديدة ولكى يرث القتلة الضحايا بعد أن ورثوا الصفات الوراثية والمكتسبة لأسلافهم المستعمرين، فراحوا يشترون القواعد العسكرية البريطانية والفرنسية والأسبانية لكى تصبح أمريكا لهم وحدهم، ويمضى بنا التاريخ حتى نصل إلى ما سمى بالحروب الاستكشافية شمالاً ضد كندا وجنوباً ضد المكسيك ، تلك الحروب التى خاضوها فقط للتأكد من أن الجيران لا يشكلون خطراً ولا يرقون إلى درجة منافسين ولتستعر الرغبة فى الاستحواذ على القارة بأكملها، بعد ذلك يصبح التوسع حلم الراديكاليين الأوائل منذ " جيفرسون" ولا يوقف هذا التوسع المحموم إلا حدود القارة وشواطىء المحيط ويشيد الأمريكيون واحدة من أكبر الأمبراطوريات فى التاريخ دون أن يعنى ذلك ارتباطها بذات الأسباب التى ارتبطت بها الأمبراطوريات الأخرى، فالنازيون تحت قيادة هتلر كانوا مدفوعين بإكذوبة الجنس المتفوق وباعتبار الأجناس الأخرى أشباه بشر، كما لم ترتبط إمبراطورية الشر الجديدة بأيدولوجيا تسعى للقضاء على الاستغلال كما هو الحال بالنسبة للشيوعيين ولم تدعى أن لتوسعها وظيفة حضارية فى عالم مضطرب يموج بالممالك المتهالكة والجماعات البربرية كما كان الأمر بالنسبة للإمبراطورية الرومانية، لقد كان الأمريكيون مثل البريطانيين يرغبون فى السيطرة على كل البحار والمحيطات لتظل مفتوحة أمام سفنهم وتجارتهم وهذا يوضح سبب سيطرة روح البزنيس والتجارة على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، تلك الروح التى تسيطر على كل جوانب الحياة الأمريكية بداية من التشريع والكنيسة ومروراً بمحلات الوجبات السريعة وانتهاءً بكل القوى والفاعليات السياسية فى المجتمع، وفى البداية كان يبدو أن روح البزينس روحاً انعزالية أكثر من كونها توسعية فدفعت بالأمريكيين إلى التركيز على بناء قاعدة صناعية ضخمة فى الداخل ولذلك عارض ملاك السفن ورجال الصناعة فى" نيو انجلاند" حرب 1812مع بريطانيا بينما أيدها الفلاحون وظل معظم الأمريكيين مهتمين بحماية صناعتهم الوليدة أكثر من اهتمامهم بالمغامرات الخارجية، غير أن الأمر لم يستمر على هذه الصورة فبعد أن تم بناء الصناعة وبعد أن أمدهم تيار الهجرة بقوة فائضة ساعدتهم على استغلال كل مصادر الثروة وإقامة سوق وطنية كبيرة للفحم والمنتجات الزراعية عاد هاجس التوسع والعدوان الكامن فى طبيعتهم ينشط من جديد وقد سخر" تشارليز بيرد" من سياسة الباب المفتوح على الداخل فى القرن التاسع عشر، تلك السياسة التى جعلت من أمريكا أمة منكفئة على ذاتها قانعة باستيعاب العالم داخل حدودها دون أن تغامر هى بالذهاب إليه، لقد كان المفهوم الانعزالى صالحاً لسياسة " التمحور حول الذات"
ولكن بعد أن تشبع السوق الوطنى بدرجة كبيرة ولم تعد القارة قادرة على استيعاب فائض القوة الاقتصادية الهائل, تعرض الأمريكيون لسلسلة من الأزمات المتتابعة وكان عليهم أن يغيروا سياستهم الخارجية وأن يبحثوا عن أسلوب جديد للمشاركة فى الصراع العالمى ولكن شبح الخوف ظل مسيطراً على تفكيرهم, وبعد وقوع الحربين العالميتين الأولى والثانية أدرك الأمريكيون أن بإمكان قوة عظمى أخرى أن تعتم عليهم بل وتهدد استقرارهم ونظمهم حتى فى داخل امريكا نفسها، ففى عام 1914 تمثل لهم الخطر فى القوة التوسعية للإمبراطورية الألمانية التى هددت بغلق المنافذ البحرية التى تربط الصناعة الأمريكية  بالأسواق وبمصادر المواد الخام وفى عام 1933 جاء الخطر أيضا من المانيا بعد نشوء قوة ايدولوجية تسعى لتقوية امبراطورية الألف عام وتهدد بتقزيم الولايات المتحدة وجعلها مجرد تابع( ليتها فعلت) وبعد عام 1945 تملكهم الرعب ممن  أسموهم" الإمبرياليين الشيوعيين" وهى تسمية غريبة ولكن الأمرييكيين مغرمون بتسمية أشياء ثم محاولة إثبات أنها موجودة بالفعل، هؤلاء الشيوعيون ألإمبرياليون استطاعوا من وجهة النظر الأمريكية طبعاً  أن يستخدموا مصادر الثروة فى شبه القارة الروسية لتصدير خطاب أيدولوجى يهدف إلى تحقيق الشيوعية ليس فى بلد واحد فقط بل فى إطار قوة عالمية وتمثل ذلك فى محور " موسكو-بيونج يانج" الذى سيطر على مساحة شاسعة من أوربا وآسيا، ثم اشطاط الأمريكيون غضباً فى منتصف الخمسينيات حينما برز للوجود محور" القاهرة- موسكو" وليس غريباً أن الأمريكيين مازالوا أسرى لخيلاتهم المريضة لدرجة أننى بت اعتقد أنه إذا حصلت المخابرات الأمريكية على معلومة تفيد بأن سوريا مثلاً تفكر فى استيراد كمية كبيرة من "التمر" فإن " السى. آى . إيه" تسطيع عبر روايات ملفقة أن تقنع العالم أن سوريا تخطط لصناعة القنبلة النووية.
   لقد كانت هناك محاولات كثيرة من جانب الباحثين لحل التناقض عبرالبحث عن عوامل ارتباط بين الأفكار الإنعزالية وسياسة التعاون الدولى والرغبة المحمومة للتدخل فى شئون البلدان الأخرى من جانب وبين الاتجاهات السياسية داخل الولايات المتحدة من جانب آخر ولكن ذلك لم يكن سهلاً فقد كان "الجيفرسون" – مثلاً- توسعيين فى مقابل الفدراليين، بينما كان الليبراليون فى طليعة القوى المناهضة للإمبريالية وبالتالى كانوا من أنصار العزلة، أما المحافظون فقد وقفوا خلف الحرب الأمريكية الأسبانية والمغامرة العسكرية فى الفلبين ومن المدهش حقاً أننا نجد فى التركيبة العجيبة للاتجاهات السياسية الأمريكية ما يمكن تسميته" "بالليبراليين الأمبرياليين" ومنهم على سبيل المثال لا الحصر" تيودور روزفلت" والسناتور"بيفر ردجن"، كما أننا نجد بعض اليمينين الذين ادعوا أنهم مناهضون للتوسع وللامبريالية من أمثال" أ. ل. جودكن" والسناتور هور"
    ومع بداية القرن العشرين أصبحت الملامح العامة للاتجاهات السياسية أكثر تداخلاً وتناقضاً وفى اعتقادى أن ذلك يرجع إلى سيطرة العقلية النفعية البرجماتية على معظم أطياف السياسين الأمريكيين لأن الرغبة فى الهيمنة والتدخل فى شئون الأخرين كامنة فى جوهر نشأة المجتمع الأمريكى وبالتالى أصبحت تشبه الصفات الوراثية السائدة وليس هناك فى اعتقادى اختلاف كبير بين قبضة كارتر الحريرية وقبضة بوش الحديدية فالأمريكيون تجار بارعون يعتمدون على " الفهلوه" والتغليف المبهر للبضائع الفاسدة ، و الليبراليون الذين صدعونا بحقوق الانسان هم امبرياليون حتى النخاع أيضاً ولكنهم قد يسمون الإمبريالية" التعاون الدولى" فى لحظة معينة كما يطلقون مصطلح " العالم الحر" على مناطق نفوزهم غير أن هؤلاء الليبراليين يتحولون إلى صقور شرسة حين يكونون فى مراكز صنع القرار ولعل ذلك يذكرنا بلعبة الصقور والحمائم فى السياسة الإسرائيلية" ولك عزيزى القارىء أن تقارن إذا أردت بين العرب والهنود الحمر!
ومنذ عهد " ولسن" كانت كل الجماعات السياسية فى أمريكا تشعر أن لها مصلحة مباشرة فى نشوء مسئولية أمريكية نشطة عن العالم( لا حظ معى أن المسئولية والهيمنة لهما نفس المعنى فى القاموس السياسى الأمريكى) ، فبالنسبة لرجال الأعمال لا يعنى الأمر سوى الحفاظ على الأسواق العالمية وبالنسبة لليبراليين لا يعنى سوى الحفاظ على مناخ عالمى يمجد النموذج الأمريكى ويحاصر البلدان المارقة من الحظيرة الأمريكية بدعوى انتهاكها لحقوق الإنسان ولذا فقد تحالف الليبراليون ورجال الأعمال من أجل دعم ما سمى حينها "بسياسة التعاون الدولى" ولكن القوى الانعزالية ظلت قادرة على ممارسة ضغوطها على الإدارات الجمهورية والديموقراطية واستطاعو منع الرئيس "ترومان" والوزير "إيكسون" من إقامة علاقات ودية مع نظام الحكم الصينى بعد نجاح الثورة الصينية وكان "ترومان" يرى أن الوقوف فى وجه تلك القوى يعتبر انتحاراً سياسياً لأنهم كانوا مستعدين دائماً لاتهام خصومهم "بخيانة أمريكا"( نلاحظ طبعاً أن نقس التهمة موجهة الأن لمعارضى بوش فى حربه على العراق)
   ولا يعنى ما سبق أن مواقف الانعزاليين كانت مبدئية لأن" حزب الشعب" الذى كان قد تأسس فى نهاية القرن التاسع عشر ودعى إلى سيطرة الدولة على بعض القطاعات والحد من الملكية الخاصة كان يغير أيضاً من قواعده الطبقية وقيادته فى كل جيل لدرجة أنه ارتبط بالاستراتيجية العسكرية للجنرال"  دوجلاس ماك آرثر" وارتبط بالسياسية الداخلية سيئة السمعة للسناتور" مكارثى"
   من هنا ندرك أن الانتهازية السياسية وروح البيزنيس أدت إلى تطبيق قوانين العرض والطلب على السياسة الداخلية أيضاً على العلاقات الدولية الخارجية كما أدت إلى سيطرة الرغبة فى الانفلات من أطر منظمة الأمم المتحدة أو تحويلها إلى مجرد أداة من أدوات السياسية الخارجية الأمريكية ولا سيما بعد انهيار المعسكر الاشتراكى معتمدين فى ذلك على قوتهم العسكرية وضاربين عرض الحائط بكل قيم التعايش السلمى, بل أن الأمر وصل إلى حد التهديد باستخدام السلاح النووى فى الحروب الوقائية ومن ثم حل الردع محل التفاوض وتخلت أمريكا عن تحالفتها الدبلوماسية مع الدول الصغيرة معتمدة فى ذلك على سلاحها الجوى المحمول على القطع البحرية التى تسيطر على بحار العالم بل ولا تخجل من القيام ببعض أعمال القرصنة وتفتيش السفن للتأكد من حرمان الدول التى تحاصرها من الغذاء والسلاح ولكن علينا أن ندرك كعرب أن دعمها المطلق لإسرائيل لا يرجع فقط إلى تأمين المصالح الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط والدور الذى تلعبه إسرائيل فى القضاء على أى بادرة للتنمية فى المنطقة العربية ولكنه يرجع أيضاً إلى التشابه فى النشأة الذى يوحى دائماً بالارتباط فى المصير ولقد جاء خطاب كارتر أمام الكنيست فى مارس 1979 ليؤكد على تلك القناعة المشتركة عندما قال" إن شعبى أيضاً أمة من المهاجرين واللاجئين وإننا نتقاسم معاً ميراث التوراة" ولم يكن كارتر بذلك يعبر عن مفهوم جديد فى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية فهناك العديد من الرؤساء الذين سبقوه مثل" هاردنج" و " هوفر"، كما أن بوش الأب وبوش الإبن لا يشكلان تغيراً فى جوهر السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط والعالم وتلك مسألة واضحة للعميان ولكن يبدو أن البعض فى المنطقة العربية يسعون نحو نفس مصير الهنود الحمر.

مراجع المقال
1-America as a civilization- Max Learner. Simon and Schuster
2-الصهيونية غير اليهودية- ريجينا الشريف- عالم المعرفة- ديسمبر 1985
3-And keep your Powder dry-Margaret Mead-Newyork1942

ليست هناك تعليقات: