الجمعة، مايو ٢٢، ٢٠٢٠

23-1-2009متى نتوقف عن ادعاء الحكمة بأثر رجعى؟



متى نتوقف عن ادعاء الحكمة بأثر رجعى؟
                                                  بقلم / سمير الأمير
على الرغم من اعتقادى بأن كل الرؤى بما فيها الأفكار ذات الطابع الدينى هى تعبير عن بنى تحتية اقتصادية واجتماعية وتاريخية، إلا أننى أدرك أن هناك ما يمكن تسميته " بعتمة الايدولوجيا" وبما أننى أحتفظ لنفسى ببراءة اختراع المصطلح فلابد لى من توضيح ما يعنيه،  بداية يعرف معظمنا أن المقولات المختلفة هى محاولات لتفسير الواقع وأن الرؤى المتعددة هى أيضا محاولات لاستشراف الاحتمالات التى قد يكون عليها هذا الواقع مستقبلاً، ولكن عندما تستحوذ تلك المقولات على الأدمغة وتشكل هاجساً ملحاً تكتسب أولوية فى أذهان أصحابها لدرجة أنها تصادر الواقع وتختصره   بل وتستعبده ليصبح ظلا للمقولات والأفكار المسيطرة والتى تتحول إلى هدف فى حد ذاتها، ومن العجيب أن ذلك لا يشمل فقط المثاليين وأصحاب الرؤى الدينية الذين يفسرون كل الصراعات فى إطار ثنائية الأيمان والكفر ولكنه يستشرى فى حياتنا الثقافية ليشمل الليبراليين والماركسيين وكل هؤلاء الذين يفترض أنهم يقاربون الواقع مقاربة علمية بعيدا عن الأحلام والرغبات،  وتثبت القراءات المتعددة للعدوان الاسرائيلى الوقح والسافر على غزة " أن عتمة الإيديولوجيات" لدى بعض مدارسنا الفكرية والسياسية تضبب المشهد الواضح أساسا وتأسره فى تصورات مسبقة ومن ثم تساهم فى إفلات اللحظة التى يمكن استخدامها بشكل اعلامى وعلمى لفضح آلة الحرب الصهيونية العنصرية التى تشكل خطرا على الإنسانية   وتاريخ نضالها من أجل الحرية،  وهذا ما أدركه "هوجو شافيز" فى فنزويلا عندما قطع كل علاقات بلاده بدولة الكيان الصهيونى وتبعته بوليفيا وبعض شعوب دول أمريكا اللاتينية المناهضة للسياسية الأمريكية والساعية إلى إعادة الروح للبديل الوحيد لعولمة رأس المال المتوحش وهو البديل الاشتراكى الذى يتجاوز أخطاء التجربة السوفيتية وينفتح على أشكال أخرى متجددة ومتنوعة، وظن الكثيرون أن شافيز يقوم بذلك من أجل دعم الحق الفلسطينى و فقط، وذهب البعض أن موقفه يعد موقفا بالغ المثالية كون وزير خارجيته قد صرح فى حواره مع قناة الجزيرة عندما سألته المحاورة " ألا تنزعجون من اتهام البعض لكم بالعلاقة مع فصيل اسلامى كحماس؟ ، فرد عليها ببساطة وعمق " نعم هم أشقاء لنا " إذ يعلم الفنزويليون أن المواجهة مع توحش رأس المال الذى يسعى لإذلال الشعوب واستغلال الفقراء فى العالم، يعلمون أن تلك المواجهة تكتسب طابعا عالميا وأن انتصار المقاومة فى أى بقعة من العالم يصب فى مصلحة الشعب الفنزويليى وغيره من الشعوب المتطلعة إلى نمط تنموى مستقل يقدم أملا للبشرية فى القضاء على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ويواجه الآثار الناجمة عن البطالة والجوع والفقر   وما يتبعهم من تفسخ وانحلال وعنف وجرائم أخلاقية وكل ما يمكن أن يضاف إلى القائمة السوداء للنظام الرأسمالى العالمى الذى ساهم ويساهم فى العدوان على أى شعب يسعى للإفلات من التبعية حتى لو أدى ذلك إلى إبادة هذا الشعب كما أثبتت أحداث تاريخية سابقة،
من هنا يصبح من المفيد وضع ما يحدث فى غزة فى إطاره الصحيح كجزء من نضال كل شعوب العالم ضد الاستعمار، ورغم اعترافنا بأن حركة حماس لم تستطع أن تقدم خطابا إنسانيا يجعل مقاومتها للصهاينة ولعنصريتهم يطمئننا أن الأمر برمته لا يهدف إلى عنصرية أخرى ربما تكون أبشع من الصهيونية نفسها كونها موجهة إلى المسلمين المنتمين إلى مدارس فكرية أخرى، إلا أننى أعتقد -وأرجو أن لا يكون ذلك أيضا من قبيل الأوهام- أن صحوة الضمير التى شهدناها فى مظاهرات الغضب فى كل أنحاء العالم ولاسيما فى أوروبا تنديدا بالعدوان الهمجى وما شهدناه من مواقف محترمة ليهود وحاخامات ولمواطنين من دولة الكيان يتبرأون من همجية وعنصرية إسرائيل ويذهب بعضهم إلى تمزيق جوازات السفر الإسرائيلية " فى تقديرى أن تلك الصحوة العالمية ستؤدى إلى تطوير الخطاب الدينى الإسلامى  فى اتجاه الانفتاح على الإنسانية بل ربما تخلصه من عتمة مقولاته المعلبة والسابقة التجهيز   وستنعكس إيجابا على إدراك الشعوب لوحدة نضالها ضد الهيمنة ، تلك الوحدة التى تتخذ أشكالا مختلفة لأيدلوجيات متجاورة ومتنوعة ومنفتحة على بعضها البعض، بشرط أن نتجاوز الفخ الصهيونى الذى يسعى لغرس الرعب فى قلوبنا عبر توحشه فى إراقة دماء الشعب الفلسطينى وبشرط أن ندرك أن مقولات الندم على ما كان يبدو للسذج أنه "لبن مراق" هى مقولات انهزامية تصب فى مصلحة مسلسل الرعب الصهيونى وهو بالتأكيد ما لا يهدف إليه مروجوها ومن ضمن تلك المقولات  التى يجب أن نفكر فى نتائجها قبل تعميمها ما قرأته مؤخرا   فى مقال عن الصراع العربى الاسرائيلى وهو مقال مليء بعبارات مثل" ليت العرب قبلوا قرار التقسيم، وليت عبد الناصر قبل مشروع السلام الاسرائيلى" وكأن الأمر هكذا! وكأن إسرائيل عرضت علينا سلاما حقيقيا ولكننا رفضناه،  وكأن دولة الكيان الصهيونى لم تكن هى المعتدية فى 56 و67 وكأن صواريخ غزة هى التى استفزت الكيان الصهيونى كما يقول بعض أصدقائنا اللبراليين الجدد مدعى الحكمة بأثر رجعى، هؤلاء الذين يغرقون فى عتمة الأيدولوجيا الخفية للعالم الرأسمالى الذى تدل شراسته وحماقته على قرب أفوله وانهياره وأيضا يطالبوننا أن نشفى من مرض المقاومة التى يرونها سبباً فى استعداء الآخر الصهيونى علينا والتى تجعلنا نحمل عصى تسبب الرعب والفزع لعدو يمتلك أحدث وسائل الفتك والتدمير، وتلك هى عتمة الأيدلوجيا التى تشبه قنابل الفسفور الأبيض التى يطلقها الصهاينة قبل اقتحام البيوت،  فلنرفع أغطيتنا لنرى بأبصار من حديد أن مشكلة إسرائيل ليست حماس وصواريخها ولكن المشكلة هى أرحام الأمهات الفلسطينيات اللائى يلدن شعبا فلسطينيا جديدا كلما أمعنت إسرائيل فى القتل،  ورحم الله محمود درويش الذى يقول فى قصيدة "بيروت" هل تعرف القتلى جميعاً؟/ والذين سيولدون/ سيولدون تحت الشجر وسيولدون تحت المطر وسيولدون من الحجر وسيولدون من الشظايا... إلى أن يقول "  يولدون بلا نهاية ويكبرون ويقتلون ويولدون ويلدون....

ليست هناك تعليقات: