الأحد، مايو ٣١، ٢٠٢٠

1-8-2012" ريحة الحياة...... ريحة الشعر"



" ريحة الحياة...... ريحة الشعر"
بقلم/ سمير الأمير   
أ. مقدمة ضرورية
فى الشعر كما فى العصائر ما هو طبيعى كالفاكهة الطازجة وما هو مجرد لون ورائحة وطعم صناعى يجعل من لا يستطيع أن يفرق يعتقد أنه يستمع لشعر حقيقى تماما كما يظن من يتناول الشربات الأحمر الفاقع أنه يتناول عصير الفراولة، ولكن هذا لا ينطلى على الذين يعرفون معنى الفاكهة الحقيقية، ربما لا يحب إنسان طعم المانجو الطبيعى ولكن تبقى للمانجو مكانته التى لا ينكرها عشاق الليمون، فى الشعر أيضا قد لا تروقك القصائد العمودية لكن هذا لا يعطيك الحق فى أن تقلل من قدر" المتنبى"، وقد لا ترى فى قصائد النثر ما يدفعك للقول بأنها تنتمى لجنس الشعر ولكن ليس بمقدورك أن تنكر جدة و أصالة ما كتبه" الماغوط "أو" أنسى الحاج"، وقد تجد من خريجى الأزهر والمتدينين من يهاجم شعر العامية ويعتبره سُبة فى جبين العرب ولكنك قد تسمعه يردد الأغانى التى كتبها" مرسى جميل عزيز" أو “الأبنودى"، أى أنه ليس شرطا أن تتفق ذائقتك مع نوع من الفنون لكى تعترف بأنها فنون حقيقية لأن الفنون الحقيقية كالفاكهة الحقيقية مستقلة عن ذائقة المتلقى بدرجة ما.
على أن المرء يجب أن يعترف أن داخل إنتاج الشعراء ما هو طبيعى وما هو مفتعل وأنه كلما زاد حجم الأصيل فى إبداعهم كلما اتسعت دائرة من يتلقون إنتاجهم و ومن يستمتعون به، بل قد تنتشر أبياتهم حكما وأمثالا على ألسنة العامة والخاصة، غير أن الحق يقتضى أيضا أن أقول أن "الافتعال" عند الشعراء الجيدين يكون استثناءا وعند المتشاعرين يصبح هو القاعدة ومن ثم يصبح تناول إنتاجهم تهديدا للوجدان وللذائقة وخطرا على مستقبلات الفن والجمال والإحساس داخل الدماغ الإنساني، ومن هنا فإنني أهيب بالمؤسسات المعنية بنشر الإبداع أن تراعى الدقة فى إجازة الأعمال للنشر لأن هذا النشر ممول من ميزانية الدولة   وعلى هؤلاء أيضا أن يعلموا حجم ما يرتكبوه من جرم إذ تقع تلك الكتب فى أيدى المبتدئين فيظنون أن الإبداع يكون هكذا، كما أن الشعب العظيم الذى استمع إلى المواويل الشعبية وتأثر بها وأنتجها سينصرف عن الإبداعات المفتعلة غير الأصيلة لأن الناس أصبحت أكثر وعيا و لذا لم يكن غريبا أن يردد الثوار فى الميادين أغانى" سيد درويش" و" الشيخ إمام" و"منير" ولا يلتفتون لمعظم الأشعار والأغاني التى صدرت عن السلاسل الأدبية على مدى ثلاثين عاما، على أنه يلزم التنويه أن ذات السلاسل صدر عنها أعمال رائعة لمبدعين كبار لكن مجاورتها بركام الأعمال التافهة قد ضيعها وضيع الحقوق الأدبية والمعنوية لمبدعيها بعد أن زاحمهم المدعون الذين اعترفت بهم المؤسسات واحتفى بهم الإعلام انتقاما من الشعراء والكتاب الوطنيين الذين جعلوا من إبداعهم رسائل للوطن وللناس فضلا عن دورهم المناهض لقمع الحريات وللسياسات التى انتهجها النظام منذ سنة 1974 وحتى ثورة الخامس والعشرين من يناير   2011 التى لم تفلح حتى الآن فى القضاء على هذا النظام التابع الذى يعتمد على الاقتصاد الريعى الذى لا هدف له إلا نهب البلاد والعباد.
ب.  ديوان ريحة الحياة للشاعر" أشرف عزمى
صدر الديوان عن سلسلة " كلمات" بفرع ثقافة الدقهلية فى تسعين صفحة من القطع المتوسط فى العام   2012   بعنوان " ريحة الحياة" وهو عنوان يعطى دلالتين متناقضتين إذ قد يقع فى روعك أن الشاعر يقصد أن الحياة التى نحياها ليست حياة حقيقية وإنما هى مجرد رائحة ومن ثم فنحن كائنات متشوقة للحياة الأصيلة وليس لمجرد رائحة الحياة التى لا تشى بأية إمكانية للسعادة وللتحقق، أما المعنى الآخر فلن تحصل عليه إلا عندما تقرأ العنوان وأنت تأخذ نفسا عميقا كأنك تولد الآن وتستقبل رائحة الحياة وهو ما يعطى دلالة على فرحك واحتفائك بالحياة، وبين هذين المفهومين يمكن أن نضع معظم قصائد الديوان حين نحلل القصائد على مستوى المحتوى وطبقا للرسالة التى تسعى لتأكيدها كل قصيدة، وأحيانا فى داخل كل قصيدة تجد الرسالة تتأرجح بين اليأس والأمل أو تجد الرسالة تسعى فى اتجاه معين بينما يأخذك التدفق الإيقاعي الخارجى للكلمات فى اتجاه يتناقض مع المضمون العام للقصيدة، ففى قصيدة "خيال المآته" مثلا يقول الشاعر:-
كلك كده مداس عليك/ داسوا خلاص على عزتك/ دبحوا البراءة ولجموا فيك السكااااااااااااااات
فالأحرى أن الأعداء لجموا فيه " الكلام " وليس السكات"/// وفى نفس القصيدة يقول " أشرف عزمى" وهو يتحدث إلى وطنه/ دعوة بقلب ملان صفا/ وبروح يدفيها الإيمان
الدور يجينا كلنا / لا نعلم هنا إن كان "الدور" هنا يشبه " دور المرض" ربما لا يقصد الشاعر ذلك لأن الدعوة كانت من قلب ملىء بالصفاء وبروح يدفئها الإيمان فلابد أن يكون ذلك " الدور " شيئا جميلا وإلا فإن البناء يصبح متناقضا ؟ وهو الأمر الذى أرجحة لأنه فى نهاية المقطع يقول:-    ياخدنا لرحاب اللى راحوا__ إلى أن يقول: وتعيش وحيد يا وطن _ كان يمكن لهذا التناقض أن يختفى تماما بتغيير كلمة واحدة  وهى كلمة " رحاب"  بكلمة  أخرى عكسها تماما " قد تعنى " المتاهة"  " الخيبة" لأن كلمة رحاب توحى بالاتساع والجمال فضلا عن معناها الدينى ، لكن نهاية القصيدة كانت بالغة الاتساق والروعة  ، يقول أشرف عزمى :
                  واقفين خلاص/ جاهزين لكم / تعالوا يالله واسرقونا/ حتلاقونا ف انتظاركم/ فارشين لكم روحنا طريق/ ما احنا خلاص خيال مآته كلنا/
الجدير بالملاحظة أيضا أن إعادة ترتيب بعض الأسطر وحذف بعضها يجعل _ فى تقديرى وهو أمر طبعا غير ملزم لأحد_ يجعل الأمر أكثر جمالا واتساقا، فعلى سبيلا المثال فى القصيدة الأولى " غيتى زرع الكلام": مشتاق لزرعه / تخضر الملكوت/ تحيى قلوب بتموت/ تطرح أمل جوه الضمير/
سنجد أن الشاعر وصل بنا إلى أعلى آفاق التعبير فى قوله" تخضر الملكوت" ثم هبط بنا إلى التعبير الذهنى " تطرح أمل جوه الضمير" بل وصل بنا إلى تعبير “ وأشوف الوف متحزمة بورد الوصال "بما ينطوى عليه من صياغة ذهنية فضلا عن مجانية التعبير الذى أصبح مبتذلا بكلمة " الوصال"   والعبارة كلها فى تقديرى ينبغى حذفها: وقد أعدت ترتيب الأسطر كالتالى:مشتاق لزرعة تطرح أمل جوه الضمير / تحيى قلوب بتموت/ وتخضر الملكوت/ وبهذا يكون التعبير متصاعدا لأنه بعد أن يخضر الكون لا معنى إطلاقا يمكن إضافته “ بورد الوصال"
على أن المقطع التالى من القصيدة بالغ الجمال فى دعوته للرفض وللمقاومة، يقول الشاعر:
أوعاك تنام/ أوعاك تتوه/ أوعاك تقول إن الطريق مليان سدود/ فيه ألف ضحكة بتتولد وقت الغروب/، ولكننا سنلاحظ أن السطور التى جاءت بعد هذا المقطع لم يضف لتأكيد فعل المقاومة بنفس القدر الذى تحدثنا عنه وهذا يذكرنا بالقول " إن الإبداع هو القدرة على الحذف"، لكننا نعود للشعر حين نطالع عبارة " فى الليل أنا واخد ميعاد م الليل" وتستمر المفردات الدالة على حب الحياة والتحقق/ ارمى ف حضنه همومى/ نسمة شذى/ فتفوق عيونى / واتوه فى أوراد التقى / لكننا سننزعج حين يفاجئنا الشاعر بقوله/-:- أشوف فراغ جوه المرايا يشبه لصورتى / فابعتله بصة سخرية/ وهى صورة رائعة من الناحية الشكلية لكن مضمونها يتناقض مع الرغبة فى الحياة والتحقق لما تنطوى عليه " السخرية " من روح الانتقام من الذات القديمة. وبعدها فى نفس القصيدة يقول / مع كل حلم أنا بوئده تحبل مشاعرى أحلام كتير/ وهى صورة مقاومة على غرابتها ولكن كان من الأفضل أن يستبدل"بوئده" بكلمة " بيوأد وه" لكى نفهم أن الوأد مفروض من الخارج بينما الذات تقاوم بإنتاج الأحلام وفى نفس القصيدة يقول الشاعر:- واشرب من النشوى كاسات وأعيش حزين /وهى صورة تتسق مع حال من يشرب الخمر هربا من الهموم فتزداد همومه لكن تعبير عمال بيشكى ويشتكى هو تعبير إيقاعي إذ ما هو الفرق بين يشكى ويشتكى؟ أو ما المعنى الذى أضافته كلمة " يشتكى" ؟
 أما قصيدة " وطن" وهى القصيدة الثانية فهى من القصائد الجيدة بما حوت من رؤية لأحلام الفقراء الجوعى من الشباب والصبايا والفلاحين والعمال الباحثين عن عمل وبما حوته من معنى تقدمى للوطن يتجاوز الغنائية إلى البحث عن خارطة الوطن فى أوجاع المواطنين،  ومن أجواء القصيدة: /أحلام كتير / حبة بطون / مش قادرة تشبع م الوعود/ ثم يقول /حبة شباب / تقدر تجمع حلمهم ف رغيف شقا/ متعشمين فى ربع فرصة تلمهم/ ويستمر الشاعر فى خطه المتصاعد مجملا الأوجاع العامة التى تشكل وطنا من الأوجاع فى النهاية/عمال بينزف كل يوم( أى الوطن) تشخيصه مدمن للنزيف( أى تحول المرض من مجرد عارض إلى ملمح لا ينفصل عن الوطن) // والبحث جارى عن فصيلة تعوض الحلم اللى راح لكن خسارة/ مليون خسارة/ دم الوطن ما لهوش فصيلة!  ، وهى نهاية تتسق مع المقدمات التى بنى عليه قصيدته وإن كان بعضنا سيرد أن دم الوطن له فصيلة تتكون من خلط جميع فصائل أبنائه من مسلمين وأقباط أو إسلاميين وليبراليين أو ما يعن للشعراء وللمفكرين من تفسير.
فى الحقيقة يمتلىء الديوان بقصائد جديرة بالاحتفاء مثل " وش الكبت" وقصيدة "اللى داير بالحياة" وهما تحضان على المقاومة وقصيدة " هيكل عظمى" وهى محاولة لدفع الإنسان لاستكناه معنى وجوده قبل أن يفقده بفقدان أهمية الزمن وقصيدة " بيمد لسان الغيظ" التى تتحدث عن علاقة الأجل بالأمل، كما يحتوى على قصائد أخرى جديرة بإعادة النظر من قبل الشاعر _ وربما أكون مخطئا _ ففى قصيدة “ حياة ع الريحة'“ جاءت عبارة " وأنا كاره أحلم متناقضة مع متن القصيدة، وفى قصيدة "بلاقيك إنسان" وهى قصيدة جيدة إن حذفنا السطر الأول الذى لا معنى له وإن غيرنا صيغة " المتكلم" فى " ألاقيك إنسان" إلى تلاقيك إنسان" ومصدر جدة القصيدة هى أنها تتحدث عن المقاومة حتى بعد الموت، أما قصيدة "هتوه من الدنيا بحالها " فأعترف بعجزى عن إدراك المعنى الذى ربما يتناص مع حدوته شعبية لا أعرفها فضلا عن بعض مشاكل فى الصياغة مثل" حلمتك" التى أراد بها "حلمت بيكى" فى قصيدة " ريح محبة" وهذه المشاكل موجودة فى بعض القصائد الأخرى،  وأكرر أنه ربما لا أكون على صواب إذ أن ارتباط شعر العامية بالتراث الشفاهى يجعل من تقييمه بالقراءة فقط و بعيدا عن الاستماع له من الشاعر نفسه ظلما للشعر وللشاعر.

ليست هناك تعليقات: