الجمعة، مايو ٢٢، ٢٠٢٠

20-11-2008"هى فوضى".



"هى فوضى".. فى الشارع وفى الثقافة وفى القنوات الفضائية
                                                                                    بقلم/ سمير الأمير
يعتقد المتشائمون من أمثالى أن أسباب عجزنا عن حل المشكلات -التى تفاقمت و امتزجت بملامحنا وأصبحت جزءا من حياتنا اليومية - تكمن فى تلك الفوضى الثقافية التى تسود المجتمعات العربية وبحد قول المؤرخ الكبير محمود إسماعيل أصبح من الصعب أن يجتمع اثنان على رؤية واحدة للخروج من الأزمات التى نعانى منها، فالحكومات ترى أنه ليس فى الإمكان أ جمل مما هو كائن بالفعل " أو بالقوة" والحركات الإسلامية بمجملها ترى أنه ليس فى الإمكان أجمل مما كان فى القرنين الأول والثانى الهجرى والقوميون يتحسرون على خمسينيات وستينيات القرن الماضى واليساريون منقسمون بين أصحاب نظرية " الثورة الوطنية الديموقراطية" مؤيدى مشروع محمد على والمشروع الناصرى وهؤلاء الذين يعتقدون أن ثورة يوليو قد قضت على التطور الطبيعى للحركة الوطنية الديموقراطية، إننا أمام مشهد سياسى وثقافى عنيف ولكنه ينتمى إلى مواقف لا علاقة لها بالحاضر، الملمح العام الوحيد لهذا المشهد يكمن فى تقديرى فى سيطرة ما يسمى " بالسلفية" على الخطاب الإعلامى و السياسى والدينى ومن ثم الثقافى بوجه عام،  فمعظم المدارس الفكرية والايدولوجية من اليمين إلى اليسار التى تزعم أنها تريد تحريك المياه الراكدة، إنما تريد تحريكها فى اتجاه مصب النهر والكارثة أن لكل تيار نهره الخاص، وتلك الحالة " السلفية"، هى التى مكنت الحكومات العربية الحالية من ردم الأنهار والترع والقنوات الصغيرة وتثبيت كل شىء  ووقف التحرك للخلف  أو للأمام وذلك عبر تشتيت الوعى ورفع كل العلامات الإرشادية التى وضعها المفكرون والمناضلون الذين أفنوا أعمارهم من أجل نهوض الإنسان العربى  الذى انصرف بعيدا عن كل شىء  واعتمد ثقافة الصبر – غير "الجميل" طبعا- فتوقف عن التأمل وأوكل المهمة لأقدام لاعبى الكرة ولخفة دم مذيعى برامج " التوك شوtalk show" فى الفضائيات العربية، وهؤلاء يشكلون فى أغلبهم أكبر كارثة أصابت الوعى ، رغم ما يبدو  فى ظاهر الأمر من جسارة مدعاة تجعل الناس يشعرون بأنهم  مهمومون بأوجاعهم ومآسيهم، تلك المآسى التى لا تتجاوز- عند معدى ومقدمى البرامج الفضائية-  كونها خلفية مهمة لجذب المشاهدين من أجل أن يشاهدوا  الفواصل الإعلانية التى تشكل الرسالة الحقيقية لتلك البرامج  ومن ثم يمكن القول أن الفضائيات العربية لعبت حتى الآن دورا كبيرا فى الحفاظ على حالة الاحتراب الفكرى بين الأطياف والتكوينات الثقافية فى المجتمع العربى  ولم تسهم فى لعب أى دور لبلورة ملامح عامة للثقافة فى المنطقة، بل بدا أن دورها فى كثير من الأحيان هو تعميق الخلافات واستثمار الصراعات السياسية  والمذهبية فى بناء مشهد صراع الديكة  الهادف لجذب جمهور للإعلانات " target viewers " ، بالإضافة إلى الهدف الخفى الآخر"hidden target " وهو الحفاظ على درجة الوعى العام عند  مستواها المتدنى الذى يجعل كل طائفة أو حزب يتمسك بمواقفه المضاده تجاه شركائه فى الحياة والوطن ويجعل " السلفية" أو "الدروشة" تبدو كنسق وحيد ومتماسك، ومن ثم تحرم الثقافة العربية من ميزات التراكم والتنوع والتعدد التى كان يمكن أن تحافظ على حيوية وتجدد الفكر العربى فى سياق إعلامى وثفافى أكثر مصداقية  ولنأخذ كنموذج على سبيل المثال فقط ما أعلنه المذيع اللامع عمرو أديب فى برنامجه الشهير " القاهرة اليوم" تعليقا على حريق المسرح القومى ، إذ يمثل ما وصل أليه الحال عند كثيرين ممن يفترض أنهم صناع الوعى من مذيعى القنوات الفضائية المشهورين والمؤثرين، فبدلا من أن يطالب "عمرو أديب" بمحاسبة  المهملين الذين أوصلوا حياتنا إلى مرحلة العبث، أو أن يطالب المثقفين من كل الأطياف السياسية بالتوقف عن إثارة الخلافات حول الماضى كونها تشتت الطاقة وتغيبهم عن تأمل مشكلات الحاضر الذى نحياه ونتعامل معه اليوم وغدا، بدلا من ذلك أعلن  أن مصر بحاجة إلى مجموعة نقية/ تقية من أولياء الله الصالحين ليقوموا بالدعاء من أجل أن يرفع الله مقته وغضبه عنها، ويستند "عمرو" فى دعوته إلى تكرار وتواتر الكوارث التى لحقت ببلادنا فى الآونة الأخيرة كحريق المبنى التاريخي لمجلس الشورى والانهيار الصخرى للمقطم فوق منازل" منشية ناصر" و"الدويقة وفى تقديرى أن ما قاله المذيع اللامع هو أيضا كارثة تضاف إلى كوارثنا إذ ينطوى على استخدام سياسى للدين يستغل احترام الشعب المصرى له  من أجل صرفه عن إدراك حقيقة أننا  قد وصلنا إلى مرحلة الفوضى فى معظم نواحى حياتنا التى تحولت بفضل الإهمال والسلبية إلى تراجيديا غير إغريقية لأنها لا تمثل سقوطنا من شاهق ولكنها تمثل زحفنا على بطوننا فى حضيض غياب الإحساس بالأمن والأمان وانتهاك كرامة الفقراء من الباحثين عن عمل والهاربين من جحيم البطالة فى الغرق والحريق وطوابير الخبز المدعم، فضلاً عن المعاناة اليومية للموظفين محدودى الدخل الذين يشكلون فى رأى جوهر المشكلة إذ لا يمكن لهؤلاء أن يؤدوا عملهم على وجه يجنبنا كل تلك الكوارث لإحساسهم بوطأة الحياة وانشغالهم بتدبير القوت اليومى الضرورى، الأمر الذى يتسبب فى إهمالهم لواجباتهم الوظيفية  وفى مقدمة تلك الواجبات الاكتشاف المبكر للخلل ، لقد أصبح لزاما علينا أن نعترف بأن تصرفاتنا غير المسئولة  كحكومة وكمثقفين هى السبب الرئيس وراء الكثير من تلك المآسى باعتبار أن سيادة أنماط التفكير الماضوى  والخرافى تسببت فى وجود حالة الإحباط العام الذى أدى إلى التراخى والإهمال اللذين أصبحا يشكلان ظاهرة عامة  و لعل أخطر نتائج تلك الظاهرة هو استثمار القنوات الفضائية لتلك المآسى لتحقيق هدف أساسي وهو فى تقديرى  احتواء حالة الغضب  وضمان عدم تحولها إلى طاقة وعى تدفع فى اتجاه تغيير حقيقى وهو دور تقوم به الفضائيات لصالح جماعات المصالح ويساعدها فيه بوعى وبدون وعى مثقفون ارتبط وضعهم الاقتصادى بتلك الفضائيات ومثقفون آخرون دفعتهم العزلة التى فرضها الواقع السياسى على كتاباتهم وإبدعاتهم إلى الظهور فى تلك البرامج عوضا عن الإلتقاء المباشر بالجماهير، وأذكر فى هذا الصدد أننا كنا فى مؤتمر لمناقشة أوضاع الفلاحين المتضررين من " قانون العلاقة بين المالك والمستأجر" واضطر أحد القيادات الحزبية اليسارية للسفر دون أن يستمع لمن جاءوا من القرى والنجوع  وذلك لارتباطه بموعد للتسجيل بإحدى القنوات الفضائية!!
أما "الطريقة" التى يدعونا إليها " عمرو أديب" والتى قال أنها وحدها الكفيلة بعلاج الظاهرة فلا يمكن تصورها فى إطار أنها مجرد " ثقافة سائدة فقط" لأنها   تنطوى على قدر ربما يكون مقصودا من التعمية والتغطية و تزييف الوعى،  وفى تصورى أن الفشل الذى أصابنا فى التعامل مع الكوارث هو نتيجة طبيعية ومنطقية للأسلوب غير الطبيعى وغير المنطقى الذى سخر كل إمكانيات بلادنا لخدمة ورعاية شريحة طبقية محدودة سيطرت على الأرض والماء والهواء وحولت الناس إلى كم مهمل لا يأبه له أحد ولا يحاسب على الإضرار به أحد، لأن المثقفين الذين هم عيون الوطن التى كان من المفترض أن يرى بها أصبحت غارقة فى ظلام المعارك القديمة، ورحم الله الفنان يوسف شاهين الذى أطلق آخر صرخاته قبل أن يموت حين جعل عنوان آخر أفلامه " هى فوضى"، نعم "هى فوضى" ومن يتعامى عن تلك الحقيقة فإنما يساهم فى إطالة أمد تلك الفوضى لكونه أصبح مرتبطا بتلك الفوضى التى ربما تكون قد جعلت منه نجما فى الصحافة أو طبيبا فاسدا أو قاضياً معتل الضمير أو رجل أمن مشغولا برعاية مصالحه الخاصة ولاهيا عما يحدث للناس فى الشوارع والأسواق، وفى تقديرى أن مسلسل الكوارث مرشح للاستمرار فى ظل سياسة عامة مشغولة بالتسيير اليومى فقط، وفى ظل حالة الاحتراب الثقافى والسياسى التى تسيطر على المشهد العام والتى تجعل من مآسينا مجرد مناسبة للشماتة من خصوم الفكر والسياسة، أو مادة إعلامية لخدمة الإعلان عن السلع،  وعلينا أن نكون جادين فى إدانة كل من يتقاعس عن تأدية واجبه ومحاسبة كل من اقترف إثماً فى حق هذا الوطن , وأول تلك الآثام هى الهبوط بمستوى ثقافة مصر العظيمة- مصر "محمد عبده وسلامه موسى وطه حسين ونجيب محفوظ وجمال حمدان وكل عشاقها العظام- إلى مستوى الدروشة" .

ليست هناك تعليقات: